كثيرون هم الذين تناولوا في كتبهم ومقالاتهم شجاعة وبسالة وتضحية وإباء وفداء ووفاء الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، وركز التاريخ وكتّابه أكثر ما ركزوا على قضية دعوته للاصلاح في أمة جده الرسول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله واصحابه المنتجبين، ثم قضية عاشوراء عام 61 للهجرة وما آلت اليه ماكنة الإجرام الأموي الدموي البشع، والتي عكست الحقد الدفين والكراهية البغضاء والعداء الحاقد لأبناء الطلقاء وهند آكلة الأكباد ذات الراية الحمراء تجاه آل بيت الوحي والتنزيل الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} - سورة الأحزاب الآية 33.
القليل جداً من أخذ الجوانب الاخرى لحياة الامام الحسين عليه السلام والتي هي مليئة بالدروس والعبر وتعكس الصورة الحقيقية للاسلام المحمدي وما كان يصبو اليه اهل البيت الأطهار تجاه الأمة برمتها.. من هنا أرتأيت أن استعرض في مقالتي هذه بعض الجوانب الاجتماعي والأخلاقي لسيد الشهداء التي باتت بعيدة عن غالبية أتباع أهل بيت النبوة والامامة والأمة برمتها بسبب التضليل الإعلامي الذي انتهجه بنو أمية اللقطاء وأحفادهم وأتباعهم، وكذا بنو العباس على طول التاريخ ليبعدوا المسلمين عن حقيقة الامامة ودورها الريادي في توعية وهداية الأمة نحو الصراط المستقيم باعتبارهم حبل الله المتين؛ ثم خوفاً وفزعاً من وقوف الناس على تلك الحقيقة فينقلب السحر على الساحر وتطمث سفن دعواهم المزيفة والمنحرفة في وحل الكذب والخداع الذي امتهنوه منذ سقيفة بني ساعدة حتى يومنا هذا.
أنها أيام ذكرى مولد ميلاد انشودة الفداء، قصيدة الثوار، منار الاحرار، نبراس الاخلاق والكرم، سليل النبوة، روح محمد وريحانته، قرة عين الزهراء، حبيب المرتضى.. سفينة النجاة التي من تمسك بها فقد نجى ومن تخلف عنها فقد هلك، أبي الأحرار وسيد الشهداء الامام الحسين بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام، ذلك الشموخ الرباني، والسمو والعظمة الالهية، والإيمان الذي صاغته عقيدة السماء.. فما كان للبشرية جمعاء وللتاريخ إلا أن يقفا وقفة إجلال واکبار أمام أروع أمثولة للإنسانية الشامخة وعملاق من عمالقة البطولة والإباء والفداء والتضحية في سبيل الله سبحانه وتعالى بكل غالٍ ونفيس، وينحنيا أمامها بكل خشوع.
يروي ابن حجر العسقلاني في كتابه (الإصابة) عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عبيد بن حنين: حدثني الحسين بن علي ، قال: أتيت عمر وهو يخطب على المنبر فصعدت إليه (وكان آنذاك توه يتخطى العقد الأول من عمره) فقلت: إنزل عن منبر أبي، واذهب الى منبر أبيك. فقال عمر: لم يكن لأبي منبر (العسقلاني: ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة ج2 ص77 الطبعة الأولى 1992م دار الجيل- بيروت).. وكان للحسين بن علي مجلس في المسجد النبوي، تلتف حوله حلقة واسعة من طلاب المعرفة، ورواد العلم، وأصحاب الحاجات، وقد سأل رجل من قريش معاوية أين يجد الحسين؟ فقال له معاوية: "إذا دخلت مسجد رسول اللَّه (ص) فرأيت حلقة فيها قوم كأن على رؤوسهم الطير فتلك حلقة أبي عبد اللَّه" ( القرشي: باقر شريف، حياة الإمام الحسين ج1 ص137 الطبعة الأولى 1993م دار البلاغة- بيروت).
الفكر يتعثر وينهزم، واليراع يتلكأ ويقف أمام إنسان فذ كبير كالامام الحسين أبي الأحرار، وأمام وجود هائل من التألق والإشراق، وإيمان حي نابض، وسمو شامخ عملاق، وحياة زاهرة بالفيض والعطاء.. لا يمكن أن نلج آفاق العظمة فيها، إلا بمقدار ما نملك من بعد في القصور، و انكشاف في الرؤية، وسمو في الروح والذات.. فكلما تصاعدت هذه الأبعاد، واتسعت هذه الأطر، كلما كان الانفتاح على آفاق العظمة في حياة الإمام الحسين أكثر وضوحاً، وأبعد عمقاً... لمَّا بُشِّر الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه المنتجبين بسبطه المبارك، خف مسرعاً الى بيت بضعته فاطمة (ع) وهو ثقيل الخطوات، وقد ساد عليه الوجوم والحزن، فنادى بصوت خافت حزين النبرات: (يَا أسماء، هَلُمِّي ابنِي).. فَناولَتْهُ أسماء، فاحتضنه النبي وجعل يُوسعه تَقبيلاً وقد انفجر بالبكاء. فَذُهِلت أسماء وانبرت تقول: فِداك أبي وأمي ، ممّ بكاؤك ؟!.. فأجابها النبي (ص) وقد فاضت عيناه بالدموع وبصوت متقطع النبرات حزناً وأسىً قائلاً: (تَقتُلُه الفِئةُ البَاغية من بعدي، لا أنَالَهُمُ اللهُ شفاعَتي) .
انسانية الانسان، وصدق واخلاص ايمانه بالله سبحانه وتعالى تتجلى عبر اهتمامه بالمحتاجين والفقراء في مجتمعه، ومهما بلغ الانسان من العلم، أو اجتهد في العبادة، فانه لن تتحقق انسانيته، ولن يصح تدينه، إذا ما تجاهل مناطق الضعف في المجتمع، ألم يقل ربنا سبحانه: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ*فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ*وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}( سورة الماعون، الآية 1-3) فالمهمل للأيتام، وغير المبالي بجوع الفقراء، مكذب بالدين، وغير صادق في ادعائه التدين، وإن بالغ في صلاته وعبادته، بل هو مستحق للويل والعذاب {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ* وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}( سورة الماعون، الآية 4-7)./ وأهل بيت النبوة والوحي والتنزيل كلهم على هذا الخطى والامام الحسين واحد من هذه السلالة الطيبة المباركة التي كانت تعيش للناس أكثر مما يعيشون لأنفسهم،{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} - سورة الحشر، الآية9.
كان منذ طفولته وطوال حياته على هذا الطريق عوناً وملاذاً للفقراء والمساكين والمحتاجين والضعفاء، وكان يثلج قلوب الوافدين اليه بهباته وعطاياه.. فشارك أسرته الصيام ثلاثة أيام، ما كانوا يفطرون فيها إلا على الماء القراح، لأنهم عند الإفطار يقصدهم المحتاجون، فيتنازلون لهم عن طعامهم، وفيهم نزل قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا} - (سورة الإنسان، الآية 8-9)، واشتهر النقل عنه أنه كان يكرم الضيف، ويمنح الطالب، ويصل الرحم، ويسعف السائل، ويكسو العاري، ويشبع الجائع ويعطي الغارم ويشد من الضعيف،ويشفق على اليتيم،ويغنى ذا الحاجة، وقل أن وصله مال إلا وفرقه)- رواه كمال الدين بن طلحة ونقله القرشي: باقر شريف، حياة الإمام الحسين ج1 ص127 الطبعة الأولى.. كان يحمل في دجى الليل البهيم، الجراب يملؤه طعاماً ونقوداً، إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين، حتى أثر ذلك في ظهره، وكان يُحمل إليه المتاع الكثير فلا يقوم حتى يهب عامته (المصدر السابق، ص128).
لا يمكن أن نعيش العطاء الحي لفيوضات الحسين، ولا يمكن أن تغمرنا العبقات النديّة، والأشذاء الرويّة، لنسمات الحياة تنساب من أفق من قال عنه جده المصطفى الأمين "حُسَينٌ مِنِّي وأنا مِن حُسين، أحَبَّ اللهُ مَن أحبَّ حُسَيناً، حُسينٌ سِبْطُ مِن الأسْباط"- رواه كبار الرواة منهم يعلى بن مرة الثقفي/المحدث: الألباني/المصدر: صحيح الجامع/الصفحة أو الرقم: 3146/ خلاصة حكم المحدث: صحيح، التخريج: أخرجه الترمذي (3775)، وابن ماجه (144)، وأحمد (17795) باختلاف يسير، ومسند العشرة المبشرين بالجنة - مسند الخلفاء الراشدين - ومن مسند علي بن أبي طالب، مسند أحمد- باقي مسند المكثرين - مسند أبي هريرة، مسند الشاميين - حديث يعلي بن مرة الثقفي عن النبي، أحمد بن حنبل- فضائل الصحابة - فضائل الحسن والحسين، سنن الترمذي - كتاب المناقب - باب مناقب الحسن والحسين (بتغيير بسيط)؛ ما يدلل على العلاقة النورية والنفسية والاعتبارية والعرفانية والخطية والمنهجية بينهما، ولكل علاقة شرح مبسوط لا يسع لمقالنا هذا الولوج فيه.
روى المؤرخون أن الحسين بن علي اجتاز يوماً على مساكين يأكلون في (الصفة) فدعوه الى الغداء فنزل عن راحلته، وتغدى معهم، ثم قال لهم: قد أجبتكم فأجيبوني، فلبوا كلامه وخفوا معه الى منزله، فقال (عليه السلام) لزوجه الرباب: أخرجي ما كنت تدخرين، فأخرجت ما عندها من نقود فناولها لهم(المصدر السابق، ص128-129).. وهذا غيض من فيض، وقليل من كثير، ونقطة من بحر، في حياة الإمام الحسين (عليه السلام) وإذ نحتفي بذكرى ولادته العطرة فإننا مدعوون للاقتداء بهديه، والسير على خطه، بالاهتمام بأوضاع مجتمعنا، وأن نكثّف حضورنا في ساحة المجتمع، ونتجاوز حالة الأنانية والانزواء والانطواء، حتى نسهم في بناء أوطاننا، ونخدم قضايا أمتنا، ونتعاون على البر والتقوى.. الشواهد على هذا الجانب في حياة الامام الحسين بن علي أمير المؤمنين عليهما السلام كثيرة يضيق المجال عن استقصائها.