يتساءل الكثيرون ماذا فعل الحسين بن علي "عليهما السلام" كي تفد عليه الناس من كل المدن العراقية ومختلف دول العالم ؟ ، أم إنهم يلعبون أو لعلهم مغالين أو ماذا يجري بالضبط؟ ، فلم يشهد العالم حركة بشرية بهذه الضخامة من أجل زيارة ضريح شخص دفن منذ قرون ، مسيرة تستمر اسبوعين وأكثر ، تنطلق من كل بيت وتنتهي في كربلاء ، من جانب أخر ، على طول الطريق هناك مواكب تقدم الدعم الكامل لحجيج كربلاء ، مبيت ، طعام ، شراب ، غسل الملابس بل وحتى صيانة الأحذية وصبغها ، بالإضافة الى إن جميع أو أغلب البيوت الواقعة في المدن والقرى التي يمر بها حجيج كربلاء مفتوحة لهم وموفرة لهم كافة الخدمات ، هل جن هؤلاء ؟ أم إن في الأمر سر نجهله ؟!.
لغرض الجواب على هذا التساؤل نحتاج أن نعود الى الوراء قليلاً ، وبالتحديد الى اليوم الذي عرف بيوم المباهلة ، حيث هناك واقعة لطيفة ومهمة وقعت بين النبي الأعظم محمد صلى الله عليه واله وسلم وبين نصارى نجران ، انتهى التفاوض والنقاش في الخروج الى المباهلة ، بعد تحديد الزمان والمكان ، خرج النبي محمد صلى الله عليه واله برفقة علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين "عليهم السلام" ، ورفض أن يلتحق به أحداً من الصحابة ، ايّاً كان ، وأقبل وفد نصارى نجران ، فقال قائل حكيم منهم وهم اهل خبرة بالديانات "إن بأهلنا ـــ محمد ـــ بقومه بأهلناه، فانه ليس بنبي، وان باهلنا بأهل بيته خاصة فلا نباهله فانه لا يقدم على أهل بيته إلا وهو صادق" ، اكتشفوا انه "صلى الله عليه واله" قد خرج بأعز ما يملك ، بقرابته المقربين ، تأمل رئيس وفد نصارى نجران وقرر عدم المباهلة وأتفق الطرفان على دفع الجزية .
الملاحظ هنا إن النبي محمد صلى الله عليه واله خرج بأعز ما يملك الى ميدان لا يخرج منه ولا يسلم الا طرف واحد ، والطرف الأخر يفترض أن يهلك إن تمت المباهلة حسب القواعد المتبعة ، بكل ثقة خرج "صلى الله عليه واله" بنفسه وبصحبة ربيبه علي وأبنته فاطمة أم أبيها وولداه الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، لم يترك خلفه أعز وأغلى منهم ، كذلك فعل الحسين بن علي "عليهما السلام" حين خرج لله ، وسار في الله ، بأعز ما يملك ، بكل طاقته وذخيرته ، لم يستثني نساءً ولا أطفالاً ، حتى أولاد أخيه الحسن بن علي "عليهما السلام" ، جميع المنتسبين لآل النبي ، قدمهم قرابين الى الله ، قتلاً وتشريداً وسبياً ، لم يدخر شيء إلا وقدمه في سبيل الله تعالى ، حتى جاءت الساعة التي قدم فيها روحه وجسده للسيوف والرماح ، وعظامه للخيول ، مع ذلك كله سلبوا ثيابه الممزقة ، وقطعوا خنصره بغية نزع خاتم كان يتختم به ، لم يبقوا شيئاً على الأطلاق ، فصلوا الرأس الشريف وعلقوه ورفعوه فوق رمح ، وتركوا الجسد مسجى على الارض يتعرض للفحات الشمس اللاهبة .
واقعاً ، أن تموت ويموت بعدك أبنائك وأخوتك وكافة أقاربك ورفاقك في الدرب شيء ، وأن تراهم يلاقون مصارعهم أمامك شيء أخر ، تشهد مصرعهم واحداً تلو الأخر ، وترفع أجسادهم وتنقلها من ميدان المعركة الى مكان قرب المخيم ، شيء لا يمكن الشعور به الا لمن عاش تجربته وذاق مرارته ، تجربة أليمة ، لازالت مرارتها في أفواه المؤمنين ، فكيف بمن عايشها لحظة بلحظة !.
فالحسين بن علي "عليهما السلام" أعطى لله كل شيء ، فأعطاه الله كل شيء أو من كل شيء ، فلا غرابة وأنت ترى يوم "الأربعين" ومسيرته الخالدة كل الألوان قد أثبتت وجودها وحضورها أيضاً ، بالإضافة الى الموجودات الأخرى ، تنوعت واختلفت واتخذت اشكالاً عدة ، وكانت في محورين :
1- المحور الروحي: إن للروح علامات وألوان تتغير وتتقلب من حال الى حال وفقاً الى درجات الصفاء والكدر ، الإيمان والفسق ، الفرح والحزن ، وكافة الانفعالات النفسية الأخرى ، ينبغي للحاج أن ينصح لله ، يهاجر اليه ، تاركاً خلفه كل متعلقات الدنيا ، مقبلاً على الله بكل جوارحه ، نفسياً وجسدياً ، لا يشغله شاغل سوى لقاء الله بقلب نقي ، وروح صافية ، وجسد خفيف من الأحمال ، ليتلقى النور من النور ، والصفاء من الصفاء ، فيسمو في عالم الملكوت ويكتسب البياض الناصع بعد الاغتسال بأنواره ، خالعاً عنه سواد الذنوب والمعاصي ، متوضئاَ بروحانية المشهد من كل عوالق الدنيا وألوانها البهيجة والتعيسة ، متيمماً بتراب سبيل الحضرة الإلهية المقدسة الذي سار عليه الرسل والأنبياء والصالحين وذوي المقامات الرفيعة ، ليحطم جدران وحواجز النفس الأمارة ، وليتمرغ في نهاية المطاف في وحل العشق الإلهي .
2- المحور المادي: الألوان هنا تعددت وتنوعت أيضاً واتخذت أشكالاً عدة منها :
أ) ألوان البشرة : اختلف لون البشرة من شخص الى أخر ، بالإضافة الى ما اكتسبته بشرة الحاج من سمرة بسبب أشعة الشمس والهواء الساخن وهو يطوف المدن ، متنقلاً من مدينة الى اخرى ، مضافاً الى ذلك ، ما يضفيه التعب والانهاك من تأثير على لون البشرة .
ب) الرايات: في طف كربلاء ، وبعد وقوع العباس "عليه السلام" الذي كان يعرف بـ"حامل اللواء" ، وقعت رايته ، فرفعت في الأربعين رايات لا يحصى لها عدد ، مختلفة الوانها ، كل راية تمثل لوناً من الوان الطف ، كل لون يمثل لحظة من لحظات كربلاء ، كل لون يمثل حالة من حالات العراق ، كل لون يصرخ صرخة بوجه الطغيان.
ت) الشراب : عزم الحجيج على السفر إنطلاقاً من منازلهم ، قطعوا المسافات ، جابوا المدن والبراري ، لابد لهم من شراب ، يروي الظمأ ويبل العروق ، الماء لا لون له ولا طعم ولا رائحة ، وحده قد لا يكفي ، بل يحتاج قاطع المسافات البعيدة الى طاقة وإنعاش أكثر من تلك الموجودة في الماء ، لا بأس بمشروبات أخرى تنعش الحاج مع إن نسبة الماء فيها أكثر من غيرها ، فترى إن هناك من تصدى لهذه المهمة ، ووفر كافة الوان الشراب المختلف في الطعم والنكهة ، بدءاً من بياض الحليب واللبن ، وإنتهاءً بالشاي والقهوة.
ث) الطعام: المسيرة الأربعينية تستمر أياما وليال يحتاج فيها روادها الى الطعام في كل حل وترحال ، في كل محطة استراحة ، تصدى لهذه المهمة رجالاً ونساء ، وحتى أطفال بتوفير كافة الوان الطعام المغذي والصحي لهم وعلى طول الطريق الذي قد يتجاوز الاربعمئة كيلو متر ، سفرة ممدودة مئات الكيلو مترات في عدة اتجاهات ، تنتهي ولا تتوقف في كربلاء.
ج) محطات الاستراحة: لابد من الراحة من وعثاء السفر، والتزود لسفر جديد في اليوم التالي ، لذا وفرت محطات الاستراحة على إمتداد الطريق الى كربلاء ، كل محطة لها لونها ، وشخصيتها وطريقتها الخاصة التي عرف بها أهلها بالكرم والجود والإيثار .
ح) ألوان السيارات: لابد أن نذكر في نهاية المطاف ألوان السيارات التي تقل الزوار في طريق عودتهم بعد وصولهم الى كربلاء ، لكثرتها لا يمكن إحصاءها ، لكنك تستطيع تمييز ألوانها .
في كل طريق تسلكه وتسير فيه ، تنظر الى نقطة النهاية ، وتتمنى الوصول سريعاً ، في أقرب وقت ممكن وإن طالت المسافة ، لا يستثنى من هذه القاعدة طريقاً من طريق ، عدا طريق الأربعين ، كلما قطعت فيه مسافة ، واقتربت من النهاية تمنيت لو إنها إمتدت وبعدت أكثر ، كي لا تصل الى النهاية وتستمر في المسير ، لا عجب ولا غرابة في أن يشعر كافة المشاة إن لم يكن أغلبهم بهذا الشعور ، فالمسيرة الحسينية لا تتوقف ولا تنتهي عند حد ، بل هي مستمرة الى ما شاء الله.
"تبقى مسيرة الأربعين الطريق الوحيد الذي ترغب أن يستمر ولا ينتهي"