ثورة الامام الحسين (عليه السلام) عام 61 للهجرة هي ثورة اصلاح وهداية لكل البشرية دون استثناء، تميزت عن سائر الثورات بدروسها المشرقة وتضحياتها الجسام في سبيل القيم الإسلامية والإنسانية، ورفضها المطلق للظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعرقي والقبلي والمناطقي والطائفي القائم في الأمة منذ سطوة "الطلقاء"؛ فلمست البشرية في هذه الحركة التحررية الكرامة الانسانية، والحرية الفكرية، والعدالة الاجتماعية، والتسامح الديني، والوفاء لقيم وتعاليم السماء؛ لتلتف الحشود الحرة من حولها متمسكة بسيرتها الأبية ومقدمة الغالي والنفيس لإحياء قيمها على طبق الاخلاص، مجسدة صورة العز والإباء الذي أرسته حاملة راية النهضة الحسينية زينب الكبرى سلام الله عليها في مجلس الدعي بن الدعي زياد بن أبيه مستخفة بمكانته وعقله وحكمه الاجرامي الدموي مخاطبته "مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلًا، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَ تُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلْجُ (الظفر والفوز) يَوْمَئِذٍ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ مَرْجَانَةَ"، رداً على سؤاله وهي أسيرة بين يديه «كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَخِيكِ وَ أَهْلِ بَيْتِكِ؟».
لمدرسة الأربعين الحسيني كما ثورة عاشوراء العز والتضحية والإباء، خصوصياتها وأسرارها وتأثيرها الكبير في نفوس الأحرار خاصة أتباع وأنصار أهل بيت النبوة والامامة، ويشكل الدعم المتواصل للاسلام المحمدي الأصيل على طول تاريخه النضالي والجهادي في مواجهة الشجرة الملعونة، فيثير إحيائه الخوف والفزع لدى الحكام الطغاة والمستبدين احفاد الطلقاء وشيعتهم والسائرين بدربهم كلما رفرفة راية كتب عليها "لبيك يا حسين" لترتعد فرائصهم ويولون هاربين مدبرين على أعقابهم في ظلمات الليل الدامس يجرون من ورائهم ذيول الخيبة والفشل والهزيمة النكراء، كما حدث ويحدث مع فلول الإرهاب التكفيري في العراق وسوريا واليمن ومن قبلهم مع الصهاينة في جنوب لبنان رغم كثرة عددهم وتسليحهم والدعم العالمي الذين يحضون به من خونة الأمة وتجار الدم والتكفير والنفاق مادياً وتسليحياً ولوجستياً؛ متسائلين أسباب اندحار حتى أمام فئة قليلة من رجال الله لايعرفون للخوف والهزيمة معنا ويرسمون صوراً للبطولات في سوح الوغى، تحقيقاً لوعده تعالى "كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" - البقرة: 249 .
يتصور البعض إن إحياء الأربعين الحسيني هو إحياء وتذكير انساني فقط بعمق هذه الفاجعة الأليمة وطلباً للثأر بما حل بالامام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه الميامين الذين سقطوا مضرجين بدمائهم الطاهرة ومقطعي الرؤوس والاشلاء وأجسادهم طحنت بحوافر خيول بني أمية السحقاء في ظهيرة يوم عاشوراء عام 61 للهجرة بسيف الغدر والظلم والخيانة والإستعباد والفرعنة على أرض كربلاء، فيما الحقيقة هي إحياءٌ للأمر السماوي في صرخة سيد الشهداء وأبي الأحرار (ع) التي صدحت الى عنان السماء برفض كل أنواع الظلم والجبروت والطغيان والفرعنة والعصيان الألهي والانحراف الفكري الذي بناه بنو أمية الطلقاء تلك الشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن الكريم (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ - الإسراء:60) في مواجهة رسالة السماء الخاتمة التي جاءت لهداية البشرية وأخراجهم من الظلمات الى النور.
الأربعين الحسيني يمثل الطرف الآخر لحبل الله المتين ثورة عاشوراء العز والتضحية والفداء، وهي ايضاً دعوة متجددة للإصلاح وانتصار الدم على السيف، فكانت وما زالت مدرسة عظيمة يتخرّج منها شهداء ومقاومين أحرار صامدين شامخين كالجبال العاتية لايخافون في الله لومة لائم ولا تهزهم العواصف ولا تردعهم تهديدات أعداء البشرية مهما تعاظم إجرامهم، فجسدوا ويجسدون "كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء" في كل من العراق وسوريا ولبنان اليمن والبحرين بعضهم بأيدي خالية ونفوس أبية لا تركع إلا لله سبحانه وتعالى تمسكاً منهم بقول الامام الحسين عليه السلام "إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما"، دفاعاً عن القيم الانسانية والرسالة المحمدية وعزة وكرامة الأمة .
أحداث كربلاء الطف عام 61 للهجرة ماهي إلا ثورة من أجل انتصار الإسلام المحمدي الأصيل على إسلام أبناء الطلقاء المزيف والمنحرف وإرهابهم التكفيري، وحركة عاشوراء كانت في حقيقتها حركة إصلاحية شاملة بدأت من ذات الإنسان لتتحرك في المجتمع والمؤسسة والدولة، حيث قالها الامام الحسين عليه السلام "إنّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِرًا وَلا بَطَرًا، وَلا مُفْسِدًا وَلا ظالِمًا، وَإِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصْلاحِ في أُمَّةِ جَدّي، أُريدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَسيرَ بِسيرَةِ جَدّي وَأَبي عَلِيّ بْنِ أَبيطالِب"، فجعل الله سبحانه وتعالى أفئدة الناس تهوي إليه ويجتمع المؤمنون حوله إكراماً للقرابين الثمينة التي قدمها في سبيل إعلاء كلمة الحق وهو القائل "إلهي إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى" صرخة صادحة في كل العصور والدهور يتمسك بها الأحرار رافعين نداء "لبيك ياحسين" في تقديمهم التضحيات الجسام خدمة للدين ومتصدين لإرهاب البترودولار السفياني النفاقي الوضيع الذي يستهدف أمة خاتم المرسلين (ص).
إحياء الأربعين الحسيني التي تزداد كل عام إتساعاً وتفاعلاً وتأثيراً بفضل "حب الحسين يجمعنا" وهو ما يهابه حكام الجور والقمه والترهيب فراعنة العصر لأنه يمثل توعية متجددة للأمة ودفعها نحو المطالبة بالإصلاح، ومحفزات إنسانية قبل أن تكون شرعية أو إعتقادية لما صدح به سيد الشهداء منذ قبل خروجه مجبراً من المدينة المنورة ومكة المكرمة حتى ظهرا عاشوراء الدامي؛ فهذه الأمواج البشرية الهائلة إنما هي تجسيد على الأرض لفطرة الإنسان التي تتألم لوجع المظلوم وتسعى لمواساته، وتحذيراً واضحاً أوضح من ضوء الشمس الى الحكام الطغاة بعدم الخلود على العرش، فلا زال صوت عقيلة الهاشميين يصدح في إرجاء المعمورة وهي تخاطب الطاغية الفاسق الفاجر شارب الخمر ومداعبة القردة وقاتل النفس الزكية يزيد بن معاوية بن هند آكلة الأكباد وهي تخاطبه بكل شجاعة علوية في مجلسه بالشام "فكِدْ كَيْدكَ واسْعَ سَعْيَكَ وناصِبْ جُهْدَكَ، فواللهِ لا تَمحْو ذِكرَنا، ولا تُميتُ وَحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تُرحِضُ عنك عارَها؛ وهل رَأيُك إلاّ فَنَد، وأيّامُك إلاّ عَدَد، وجَمْعُك إلاّ بَدَد، يومَ يُنادي المنادِ: أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ".
الاصرار المليوني المتزايد عاماً بعد آخر من شيعة وأتباع وانصار محبي أهل البيت (عليهم السلام) والحق والحقيقة والحرية والعزة والكرامة حتى من سائر المذاهب والأديان السماوية، في إحياء أربعينية سيد الشهداء ذلك الوعي ونور الهداية ومنار الاحرار ومدرسة مقارعة الظلم والانحراف والاستبداد وراية الحرية والعدالة والمساواة وواعية الحق والحقيقة وصوته الصادح الى عنان السماء "أني لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد، عباد الله إني عذت بربّي وبربّكم إن ترجمون ، أعوذ بربّي وربّكم من كل متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب " - من خطبة الامام الحسين عليه السلام الثانية في جيش عمر بن سعد ظهر عاشوراء.