ان المتمعن في لغة الخطاب الذا نجد ان خطاب الدعاء عند الامام السجاد (ع) يظهر البعد المعرفي المؤسس لنمط الرؤية الكونية ويعد نموذجا من الاداء التعبيري الذي يفضي الى كينونة ادبية بمستوى من الحساسية الجمالية وهذا يعني ان خطاب الدعاء عند الامام هو تجمع خطابات سماوية ونبوية ااتسعت فيها الرؤية التعبدية ، فجاءت بهذا المناخ العاطفي المتلهف ، وعلى الرغم من ان الوظيفة التعبدية هي الطاغية في خطاب الدعاء ، الا انه يمثل كينونة نصية جديدة تعتمد على خاصية الاندماج الكوني والمقاربة الذاتية التي تتخذ من الروح جسر اتصال وتواصل مع المبدع العظيم ؛ لشعورها بالنقص العام امام الفيض الغامر .
ان اولئك الذين يصفون الدعاء بأنّه تخديري لم يفهموا معنى الدعاء، لأنّ الدعاء لا يعني ترك العلل والوسائل الطبيعية واللجوء بدلها إلى الدعاء، بل المقصود أن نبذل غاية جهدنا في الإستفادة من الوسائل الموجودة، وبعد الياس منها، نلجأ إلى الدعاء، وبهذا اللجوء إلى الله يحيى في أنفسنا روح الأمل والحركة، وبهذا فنحن لانقطع الطرق الطبيعية ، فالدعاء إذن لا يحل محل العوامل الطبيعية. فهو إضافة إلى قدرته في بث الطمأنينة في النفس، يؤدّي إلى نوع من النشاط الدماغي في الإنسان، وإلى نوع من الإنشراح والإنبساط الباطني وأحياناً إلى تصعيد روح البطولة والشجاعة فينا، والى صفاء النظرة، وقوّة الشخصية، والإنشراح والسرور، والثقة بالنفس، والاستعداد للهداية، واستقبال الحوادث بصدر رحب، كل هذه المظاهر هي مجسات تشير الى كنز عظيم دفين في نفوسنا. وانطلاقاً من هذه القوّة يستطيع حتى الأفراد المتخلّفون أن يستثمروا طاقاتهم العقلية والأخلاقية بشكل أفضل . ممّا تقدم يتمحور الرد على من يقول أنّ الدعاء يخالف روح الرضا والتسليم، بل انه تحصيل من فيض الله اللامتناهي . أضف إلى ذلك، فالدعاء بمثابة العبادة والخضوع والطاعة، وسيزيد إرتباط الانسان بالله تعالى، وكما أنّ كلّ العبادات ذات أثر تربوي كذلك الدّعاء له مثل هذا الأثر ، ان المتقولين بأنّ الدعاء تدخّل في أمر الله وأن الله يفعل ما يشاء، لا يفهمون أنّ المواهب الإلهية تغدق على الإنسان حسب استعداده وكفاءته ولياقته، وكلّما ازداد استعداده ازداد ما يناله من مواهب ، لذلك يقول الإمام الصادق(عليه السلام): (إنَّ عِنْدَ اللهِ عَزّ وَجلَّ مَنْزِلَةً لاتُنَالُ إلاَّ بِمَسْأَلَة ) ، ويقول أحد العلماء: (حينما ندعو فإننا نربط أنفسنا بقوة لا متناهية تربط جميع الكائنات مع بعضها ) ، ويقول: ( إنّ أحدث العلوم الإنسانية ـ أعني علم النفس ـ يعلّمنا نفس تعاليم الأنبياء، لماذا؟ لأنّ الأطبّاء النفسانيين أدركوا أنّ الدعاء والصلاة والإيمان القوي بالدين يزيل عوامل القلق والاضطراب والخوف والهيجان الباعثة على أكثر أمراضنا) .
لقد اشتغل بهذه الأدعية عدد كبير من العارفين رواية وشرحاً وتحقيقا منذ وقت مبكر، وبذا عد الدعاء أحد الأجناس الأدبية التي عرفت منذ زمن بعيد فقد أورد القرآن عددا من الأدعية على ألسنة الأنبياء السابقين بل حتى غير الأنبياء من عامة البشر، واكدوا جميعهم على مسالة الدعاء و اثرها على حياة الانسان , فهو يغذي الانسان روحيا و يجعله يتحسس الربوبية و الطاعة و الخضوع الى الله عز وجل . فعن رسول الله (صلى الله عليه واله) قال: الدعاء مخ العبادة و لا يهلك مع الدعاء احد ، وقال " صلى الله عليه واله ": الدعاء سلاح المؤمن و عمود الدين و نور السماوات و الارضين، وقال الله لموسى "عليه السلام ": ياموسى سلني كل ماتحتاج اليه حتى علف شاتك و ملح عجينك، وعن رسول الله (صلى الله عليه واله): (ان الله تبارك و تعالى كان اذا بعث نبيا قال له, اذا احزنك أمر تكرهه فادعني استجب لك) ، وعن الزهراء (عليها السلام)): من أصعد الى الله خاص عبادته أهبط الله عز وجل له افضل مصلحته). فحكمت تلك الأدعية أنواعا متعددة من التعاليم والأحكام ، وأرخت لأحداث وسجلت وقائع ربما كانت – الأدعية – المصدر الأساس في روايتها ، ويعد ما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) أفضل ما روي في هذا الباب، ويحظى سيدنا ومولانا الإمام علي بن الحسين على قدم السبق في ذلك، حيث تجسدت فيه فلسفة الادعية فلديه مجموعة من الادعية قد صنفت تصنيفات متعددة كان اشهرها ما عرف بـ(الصحيفة السجادية الكاملة ) وهو اسم اطلق على مجموعة من الأدعية المروية عن الأمام زين العابدين علي بن الحسين u تبلغ (أربعاً وخمسين) دعاءً ، وهي متواترة ، وقد وصفها العلماء والمحققون بأوصفاف متعددة من نحو: ( زبور آل محمد وأنجيل أهل البيت وأخت القرآن ) وهذا يفصح عن تعظيمها ؛ لما امتازت به من أبعاد معرفية وخصائص أسلوبية ، كانت اللغة فيها وسيلة بيان تلك المعاني ، وهو ما يؤكد صحة نسبتها للإمام u وصدورها عنه u ، ويقول عنها العلامة ابن طاووس أنها : ( إنشاء الأمام زين العابدين علي بن الحسين السجاد : وهي من الآثار الدعائية المهمة التي يعجز البيان عن إطرائها ، وتعتبر بحق موسوعة علمية ثمينة ليست على الصعيد الروحي الذي بلغت فيه القمة من حيث براعة التعبير والمضمون فحسب ، وإنما تطرقت لجوانب عدة – اجتماعية وسياسية واقتصادية – بفلسفة دعائية عظيمة ، وأشار كثير من شراح ومحققي الصحيفة السجادية الى تعدد رواياتها وتعددت الآراء في تقويم الرواة ، وعدد من شروحها (أربعاً وستين) شرحاً ، وقال حسين علي محفوظ: ( وفازت تلك السجادية باهتمام الأفاضل رواية وحفظا وإسناداً وتفسيراً واستدراكاً ، فقد رواها الألوف وبلغت شروحها المئات وجاوزت ترجماتها العشرات ) ، وعدد من شروحها (ثمانية وخمسين) شرحا،ً وشبه محمد حسين الجلالي تواترها بتواتر القرآن ، قال: ( والصحيفة السجادية قد تناولها المشايخ وتحملوها بالانحناء المشروحة في علم الدراية وحينئذ يمكن القول بتواتر نسبتها الى الأمام ، وهذا هو حاصل بالنسبة الى نص القرآن الكريم إذ لا معنى فيه الى الإسناد لتواتره بين المسلمين شرقاً وغرباً جيلاً بعد جيل ، وهكذا هو الحال بالنسبة الى الصحيفة السجادية فهي من يعتني بتراث أهل البيت عليهم السلام ) ، فيما يرى محمد جواد مغنية ان: ( كل ما في الصحيفة السجادية يدل بذاته على أنها لزين العباد الأمام السجاد لفظاً ومعنى ، لأن كلماتها تحمل أنفاسه الزكية وتعكس روحه الصافية الطاهرة النقية ، ولو نسبت الى سواه لكانت النسبة محل الكلام والاستفهام ) .
لقد اختلفت الروايات في ذكر عدد أدعية الصحيفة السجادية ، ويشير كثير منها الى أن ما يعرف بالصحيفة السجادية أو الصحيفة السجادية الكاملة تتألف من (أربعة وخمسين) دعاء ؟، ولعل الذي يزيل الغموض عن الاضطراب في عدد أدعيتها ما قال احد محققيها علي أبطحي ( ويستفاد من ديباجة نسخ الصحيفة المتداولة أنّ عدد ادعيتها هي (75) دعاء وعليه فإن الصحيفة الكاملة خلت من (21) دعاء ، وقد ألقت صحائف أخرى جمعت أدعية الأمام ) ، ولا يبعد عن ذلك ما ذهب إليه حسين علي محفوظ ، إذا لم يجعل مصدر المناحبات الصحيفة السجادية ، وإنّما كان مصدرها كليات مفاتيح الجنان يتلخص ذلك أنها متواترة وأن عدد أدعيتها هو (أربعة وخمسون) دعاءً.
ويشير كل ما في طيات الصحيفة من درر ونفائس من القول على انها خارجة من تلميذ من تلامذة القران الا وهو الامام السجاد (ع) وهي صحيفة ازدانت برقة أسلوبها ودقة أختيار ألفاظها وأبنيتها , فأسلوبها التوجيهي هو أسلوب قرآني من القول بالتي هي أحسن , مع ما من فرق بين النصين في كون القرآن صادر من أعلى الى ادنى وكون الثاني من ادنى الى أعلى ويستبطن مخاطبة النظير , ويبرز اسلوب الأمام u جليا وهو يوجه الناس بترك المعاصي وعمل الطاعات ونبذه المنكرات والترفع عن الظلم ونحوها من خلال الدعاء ونسبة التقصير الى النفس وأنها مهما قدمت لا تؤدي حقاً واحداً لله تعالى ولا تبلغ شكر نعمة واحدة , فكيف بشكر جميع نعمه . وقد وظف إمكانات اللغة في ذلك من خلال استعمال نمط من الأبنية في كل نص للمحافظة على جرس الموسيقي للنص والتناغم مع مشاعر المتلقي , وعدم استعمال الأبنية ذات الثقل في النطق أو الوعورة في السمع , وهذا ما يفسر ابتعاده عن بعض الأبنية الكثيرة وقد أطلق عليها عدد من التسميات تعظيما لها وعرفانا بحقها وإقرارا بفضلها ، فسميت بعدة تسميات ، بل وصفت بعدة اوصاف . لقد عني بالصحيفة السجادية عدد من العلماء رواية وشرحا وتحقيقا فتجاوزت شروحها (السبعين) وترجمت الى عدد من اللغات ، وكذلك درست دراسة اكاديمية من قبل عدد من الباحثين لعل ابرزهم د. حسين علي محفوظ في بحث بعنوان (أدب الدعاء) .
وتظل قلوب الوالهين متعلقة ببارئها فهي تطوف حول سبله التي تختزل الطرق اليه بل تمهد السبل له لذلك كان الدعاء احدها وايسرها للوصول الى مبتغاها .